إعلان علوي

دراسة: آليات تفعيل التوجيه في النظام التربوي الجزائري

دراسة: آليات تفعيل التوجيه في النظام التربوي الجزائري. 

إعداد: د. ترزولت عمروني حوريةأستاذة محاضرة- أ- بقسم العلوم الاجتماعية – جامعة ورقلة

مداخلة مقدمة بعنوان الملتقى الدولي حول النظام التربوي والتنمية الاجتماعية في الجزائر. جامعة تبسة

رابط الدراسة:  http://exe.io/q0l2WvD


مقدمة:

يشهد عالم اليوم تغيرات وتطورات على كافة الميادين والأنظمة، عالم أصبحت فيه المؤسسة التربوية بالخصوص يغزوها يوماً فيوماً التخصص والإعداد الفني الذي تقتضيه المدنية الحديثة. وهكذا يفرض التوجيه المدرسي و المهني نفسه شيئاً فشيئاً كضرورة اقتصادية واجتماعية، بل أخلاقية.
من هذا المنظور يعتبر التوجيه وسيط بيداغوجي تقوم من خلاله المؤسسة التربوية بالتعبير عن فلسفتها وتحويل وترجمة الأهداف المسطرة في البرامج والمحتويات الى مكتسبات نظرية savoir، معرفة سلوكية أو أدائية  savoir faireومعرفة مستقبلية  .savoir devenir
 وكما أشار إليــه بوسنة (1998) فهو- أي التوجيه - أحد الدعائم الأساسية لنجاح عمليتي التعلم والتكوين. فالتوجيه الفعال يؤدي إلى تحقيق المثلث الذهبي فيما يخص التكفل بالمتمدرس ، أي اختيار مسار التكوين المناسب، النجاح في هذا التكوين والحصول على منصب عمل في المهنة المقابلة. وتزداد هذه الفعالية مع ارتباط الاختيارات بالمشروع الدراسي و المهني المستقبلي .
وبالتالي فالفرد عندما يختار تخصص دراسي معين أو ينتسب لمهنة ما فان ذلك لا يكمن حسب عبد الرحمان العيسوي في حاجته إلى المال ولا في ملأ فراغه كي لا يشعر بالملل أو بالبطالة فحسب، وإنما يكمن في التأكيد على ضرورة إشباع حاجاته النفسية والاجتماعية كتحقيق المكانة الاجتماعية وطموحاته، شعور الفرد بالمسؤولية والاعتزاز بالمهنة التي يعمل بها بالإضافة إلى إحساسه بتأدية دوره كعنصر فعال في مجتمعه وعليه تحقيق حاجات ومتطلبات هذا الأخير (عيد الدرزي 2000).
فالدافع الأول إذن في عملية التوجيه يكون ذاتيا ويتمحور حول الراحة النفسية وإلا لما أشار ثيودوري (1979) أنه في حالة التمكن من عزل المؤثرات الاقتصادية والبيئية والثقافية فان الفرد يختار في معظم الأحيان التخصص أو المهنة التي تلبي احتياجاته النفسية.
و تأتي هذه المداخلة لإبراز فكرة المشروع الدراسي والمهني كحتمية تمليها مجموعة من الاعتبارات أساسها حق المتمدرس في رسم معالم مستقبله من جهة، ومن جهة كغاية بيداغوجية لكل فعل تربوي وتنموي يمكن أن تتبناه المؤسسات التربوية في الجزائر مسايرة للدراسات النظرية والتطبيقية في هذا المجال.
وللوصول إلى تحقيق الغرض السابق الذكر نتناول العناصر التالية:

1- عرض حال للتوجيه المدرسي والمهني في الجزائر:

لفهم وإدراك أهمية المشروع الدراسي والمهني كغاية بيداغوجية لتفعيل النظام التربوي في الجزائر، نحاول التطرق إلى عرض حال التوجيه المدرسي والمهني في المؤسسات التربوية الجزائرية، ثم نقترح آليات تفعيله.

1-1 التوجيه في المؤسسات التربوية الجزائرية:

وبالطبع نجد أن التوجيه في الجزائر قبل الاستقلال كان مكملا للتوجيه ومبادئه في فرنسا بحيث أنشأت مراكز التوجيه المدرسي والمهني ووزعت عبر القطر الوطني وكان نشاطها محدود، بحيث كانت تشارك في انتقاء الموجهين لمراكز التكوين المهني ومتابعة فئة من التلاميذ الفرنسيين عامة.
أما بعد الاستقلال أو غداته، فقد أغلقت هذه المراكز لعدم وجود موظفين تقنين والإمكانيات المادية لتسيريها حتى تكونت أول دفعة للمستشارين سنة 1966 بالمغرب الأقصى لتسيير هذه المراكز في الجزائر.
ولقد اهتم التوجيه المدرسي في الجزائر منذ الاستقلال بعدة جوانب للمنظومة التربوية والتي كانت تسعى لمواجهة ظاهرة الأمية التي كان يعاني منها الشعب الجزائري، لذلك ارتكزت هذه الجوانب حول الإعلام العام والاحصائيات أي التكوين الكمي والذي يناسب وضع وتوزيع أكبر عدد ممكن من الأفراد على المناصب البيداغوجية تطبيقا لمبدأ الديمقراطية في التعليم. (محمد أحمد سعودي، 1992)
ورغم أن التوجيه قد نص عليه في المواد الخاصة بالمدرسة الأساسية (المادة 61، 62، 63) حسب وزارة التربية الوطنية (2001) إلا أنها لهم تحظ هذه المواد بالتطبيق، بل تقلصت مهام التوجيه إلى نشاطات محدودة في بعض الأقسام الانتقالية للمرحلة الثانوية مع توزيع التلاميذ حسب الخريطة المدرسية كل هذا يجعلنا نستنتج أن التوجيه المدرسي قد همش لفترة طويلة في المنظومة التربوية فتسبب عنه ضياع كثير من الطاقات مما أدى إلى ضرورة إعادة هيكلة التعليم الثانوي وهي التي تتمثل في التخصص الدقيق والمبكر والذي كان ابتداء من نهاية السنة التاسعة أساسي نحو مختلف الشعب العلمية والأدبية والتقنية، الأمر الذي أدى إلى تنوع الشعب وكثرة عددها، لكن رغم ذلك، بقي التوجيه أسلوب لا يتعدى مجرد توزيع آلي للتلاميذ على مختلف الشعب دون تدقيق في قدراتهم الفعلية ورغباتهم وفرص النجاح المتاحة لهم مما تسبب في تفشي ظاهرة التسرب المدرسي في المجتمع نظرا لغياب توجيه مدرسي بيداغوجي. (بوفلجة غياث 1992).
بعد هذه الفترة حاولت الجهات المعنية بالتوجيه بإدخال بعض المفاهيم الجديدة في إطار فلسفة التوجيه الحديث، إذ يشير الدليل الإعلامي لمستشاري التوجيه إلى الإعلام البيداغوجي وإلى مفهوم المشروع المدرسي والمهني، كما أدرجت في 1998 على مستوى وزارة التربية الوطنية الجزائرية تقنية تربية الاختيارات كطريقة جديدة في التوجيه محاولين في ذلك المسؤولين على تبني التوجيه التطوري وقد كان هذا العمل عبارة عن تجربة أولية في مراكز التوجيه المدرسي والمهني مثل مركز سطيف، مركز النعامة، مركز تقرت، مركز بسكرة، مركز الحراش، مركز بن عنكون ... لمحاولة مسايرة التطبيقات الحالية في ميدان التوجيه، تنص هذه التجربة على تنمية بعض الخصائص التي تساعد على صياغة اختيارات دراسية ومهنية مؤسسة بشكل عقلاني من خلال التطرق إلى بعض المحاور الخاصة بالمحيط المدرسي والمهني ومعرفة الذات وذلك على مدار ثلاثة سنوات بكاملها إذ يكلل في الأخير بقدرة التلميذ على أخذ قرار التوجيه في نهاية التعليم الأساسي.
إن صعوبات الميدانية مثل نقص تكوين المستشارين في هذا الإطار وانعدام الوسائل المادية حال دون انجاح هذه الطريقة الجديدة رغم النصوص والمناشير التي تدعم هذه الفلسفة وكذلك نقائص متعلقة بالتصميم. وهكذا وجد المسؤول عن عمليات التوجيه في الجزائر تضارب بين النصوص التشريعية من جهة وبين افرازات وضغوطات الدول المتطورة في هذا الميدان من جهة أخرى بالإضافة إلى تفاقم المشكلات الميدانية التي حالت دون تبني هذا التصور إلى أن أدخل التدريس بالكفاءات حيز التطبيق مما يفرض التفكير في الحل الأنجع لمسايرة هذه المستجدات واقتراح آليات جديدة في التوجيه ستصل إلى حل هذه الجدلية المفروضة.

1-2 التصور التشخيصي : أساس التوجيه المدرسي والمهني في الجزائر:

تدل نتائج بحث قام به بوسنة وآخرون (1995) على المستوى الوطني الجزائري شمل أكثر من 3000 شاب موزعين على 944 تلميذ في مستوى التاسعة أساسي و980 تلميذ في مستوى الثالثة ثانوي، و932 متربص على مستوى مراكز التكوين المهني والتمهين و559 بطال على أن قائمة الاختيارات المهنية لمختلف فئات الشباب محدودة وفقيرة وتسيطر عليها الاتجاهات النمطية السائدة في المجتمع والأكثر من ذلك لوحظ بأن نسبة عالية من المفحوصين ليس لديهم معرفة كافية بالشروط اللازم توفيرها من أجل تحقيق اختياراتهم المهنية. وعلى هذا الأساس فإن المهن المختارة من طرف هؤلاء المفحوصين لا يمكن اعتبارها تندرج ضمن مشاريع مهنية ناضجة وإنما عبارة عن رغبات آنية.
وفي دراسة ثانية تتبعيه قام بها بوسنة و ترزولت (1996) فيما يخص أساس الالتحاق بمشروع التكوين وخاصية النضج المهني وعلاقة ذلك بمدى الاستمرارية والتوافق في إنجاز ذلك المشروع من طرف عينة من المتربصين على مستوى مراكز التكوين المهني والتمهين بالجزائر، فقد أسفرت النتائج على أن47% من المتربصين التحقوا بالتكوين ليس على أساس اختيار شخصي وأن أولئك الذين التحقوا بمشروع التكوين على أساس اختيار شخصي لديهم نضج مهني أعلى من الذين التحقوا بنفس مشروع التكوين نتيجةً لضغط الوالدين، أو لسد الفراغ. كما أن أغلبية المتربصين الذين تحصلوا في بداية التكوين على درجات أقل من المتوسط في مقياس النضج المهني تركوا مشروع التكوين قبل إنجازه أما المفحوصين الذين تحصلوا على درجات تفوق المتوسط في مقياس النضج المهني لم يسجل أي انقطاع من طرفهم.
 وفي دراسة ثالثة تتبعيه أبرزت ترزولت عمروني (1997)  فيما يخص مشاريع التكوين المتبعة من طرف المتربصين في الجزائر وعلاقتها بخاصية الدافعية والاستمرارية في انجاز هذه المشاريع أنه كلما كان اختيار الفرد المتربص لمشروع تكوين معين نابع من نفسه كلما كان احتمال حصوله على مستوى دافعية مهنية يفوق المتوسط مرتفع، بمعنى أن الدوافع التي تنشط سلوكه في البناء والسير نحو المشروع المهني المسطر هي دوافع عالية والعكس في حالة ما إذا كان الاختيار نابع من مصدر خارجي بحيث كانت الدوافع المهنية القاعدية هي المحرك الأساسي لسلوكاته. كما أن أغلبية المتربصين الذين تحصلوا في بداية التكوين على درجات أقل من المتوسط في درجات الدافعية غادروا مشروع التكوين قبل انجازه، أما المفحوصين الذين تحصلوا على درجات تفوق المتوسط في مقياس الدافعية فلم يسجل أي انقطاع من طرفهم.
تعتبر هذه النتائج محيرة ويزيد من المشكلة حدة تنوع فروع وشعب التعليم الثانوي من جهة واعتماد طرق وأساليب في التوجيه بعيدة كل البعد عن نشاطات المنحى التطوري أو التربوي إذ أنها يغلب عليها الطابع الإداري حيث تهدف بالدرجة الأولى إلى ضمان عملية الفرز والتوزيع لمجموع التلاميذ على المقاعد البيداغوجية المتواجدة على مستوى الثانوية المستقبلة بمراعاة الدرجات التي يحصل عليها التلميذ بالإضافة إلى مؤشر الرغبة في حالة المعدلات المرتفعة كما أنه في تصوره يقترب هذا التوجيه من المنحى التشخيصي.
إن اعتماد مجلس القبول والتوجيه على هذه الأسس التقليدية وعدم تلقي فئات الشباب المختلفة للدعم المناسب فيما يخص الإعلام البيداغوجي، الإرشاد، المشورة، التقييم وتربية الاختيارات والذي يضمن لهم الإعداد المناسب للتفاوض مع مختلف المسارات الممكنة بنجاح قد يؤدي إلى سيطرة المحاولة والخطأ على سلوكهم هذا بالإضافة إلى تبديد كبير في هذا القطاع كالتسرب المدرسي، الرسوب المدرسي وعدم التوافق مع متطلبات الدراسة بشكل عام وهذا ما بينته كثير من الدراسات في ميدان التوجيه في الجزائر كدراسة قريشي  حول التوجيه المدرسي في الجزائر (1993) و بوسنة وآخرون حول وضع نظام للإعلام والتوجيه المدرسي والمهني (1995) ، دراسة ترزولت عمروني حول مشاريع التكوين المهني المتبعة من طرف المتربصين (1997) ودراسة حمر الراس حول المدرسة الأساسية ونظام التوجيه (1998).
من خلال الدراسات السابقة يمكن القول أن التصور التشخيصي هو التصور المعتمد في مؤسسات التوجيه في الجزائر ويقوم هذا التصور على عمليتين أساسيتين هما:
- تحليل الفرد: وهو القيام بدراسة علمية وتقييم لجميع خصائص الفرد وذلك بالاعتماد على أساليب القياس النفسي.
تحليل العمل (الدراسة): وهو دراسة علمية منظمة شاملة تحدد طبيعة العمل وتستوعب جميع المعلومات التي تتعلق به وتشمل هذه الدراسة نواحيه الفنية والصحية والسيكولوجية.
وبناء على المبدأين اللذين يقوم عليهما هذا المنحى والمتمثلان في ثبات خصائص الفرد و ثبات متطلبات مراكز العمل، يقوم المختص في التوجيه بوضع الفرد في نوع الدراسة أو المهنة التي تتناسب أكثر مع خصائصه ولديه حظوظ النجاح فيها دون غيرها، أي يقوم المختص بعملية المطابقة بين ما يتوفر في الفرد من خصائص وبين المتطلبات الخاصة بالفرع الدراسي أو المهني. 1978 P 206) ( Larcebeau
يتطلب القيام بالتوجيه حسب هذا المنحى إذن، توفر معلومات شاملة وكافية حول جميع جوانب الفرد ومعلومات حول متطلبات مراكز التكوين أو المؤسسات الدراسية وفروعها وكذا حول كثير من المهن ومنافذ التشغيل فيها.
ويشمل مخطط النقاط السبعة لروجر (مقدم عبد الحفيظ 1994) أهم الجوانب في الفرد التي يجب جمع معلومات حولها وهي:
-الناحية الجسمية والصحية.
-التحصيل الدراسي.
-الذكاء العام والاستعدادات الخاصة.
-الاهتمامات والميول.
-الخصائص الشخصية.
-الظروف العامة.
إضافة إلى ذلك يشمل مخطط النقاط السبعة لروجر أيضا جوانب تحليل العمل والتي من خلالها يمكن الحصول على معلومات دقيقة حول المتطلبات الواجب توفرها في العامل أو في التلميذ والطالب لنجاحه في العمل أو الميدان الدراسي الذي يوجه إليه مثل: نواحيه الجسمية والصحية، مستواه الدراسي والتدريبات التي تلقاها، درجة الذكاء المطلوبة، استعداداته الخاصة الواجب توفرها، الخصائص الشخصية المميزة للعمل طبيعة العمل، الخاصة وظروفه الفيزيقية والاجتماعية، نوعية المهام والمسؤوليات... إلخ. ص61
لذا لا يمكن إهمال جوانب تحليل العمل وهذا لأهميتها في القيام بإيجاد التطابق بين خصائص الفرد والمهن حسب ما يقتضيه المنحى التشخيصي للتوجيه.
ويستخذم الباحثون والمختصون في ميدان التوجيه العديد من الوسائل والتقنيات المساعدة في الحصول على المعلومات الكافية والدقيقة حول الأفراد وحول أنواع المهن أو الفروع الدراسية المختلفة وأهمها: المقابلة، الاختبارات النفسية، دراسة حالة، السجل المجمع وغيرها.
- نقائص التصور التشخيصي: لقد ساد اعتماد المنحى التشخيصي على تطبيقات التوجيه حتى السبعينات ولكن نتيجة لظهور بعض النقائص أعيد النظر في تبني هذا المنحى ومن هذه النقائص حسب ترزولت عمـروني حورية (2008) :
- اعتماده على فكرتين مشكوك فيهما والمتمثلتان في استقرار خصائص الفرد واستقرار متطلبات العمل و التي قد أعيد النظر في مصداقيتهما مع تطور الدراسات في علم النفس.
- التوجيه حسب المنحى التشخيصي يجعل الفرد عنصرا تابعا أو خاضعا لقرارات الموجه الذي يفرض عليه اختيارات وقرارات لم يساهم في اتخاذها، هذه الوضعية تقلل من قدرة الفرد على تقرير مصيره بنفسه، بل تجعله لا يرضى على تلك القرارات لأنه لا يحمل نفسه أي مسؤولية في اتخاذها وبالتالي لا يحقق التوافق في المجال الذي وجه إليه.
- إن الوسائل المستخدمة في التوجيه حسب هذا المنحى لا تخلو من نقائص وعيوب، مما يجعل التوجيه يقرر مصير فرد على أساس بيانات غير دقيقة إلى جانب تدخل ذاتية الموجه.
وبهدف التقليل من النقائص والأخطاء عند تطبيق التصور التشخيصي وتحقيق تكيف الأفراد في المجالات الدراسية والمهن، طور الباحثون المنحى التربوي للتوجيه والذي أصبح حاليا يمثل الإطار النظري لمختلف نشاطات التوجيه أهمها بناء المشروع الدراسي والمهني. وهذا ما سنتعرض له في النقطة الموالية. ص21

2- آليات تفعيل التوجيه المدرسي والمهني في الجزائر:

بالنظر إلى حدوديات الخدمات التي يقدمها التصور التشخيصي والتي ترتكز على استقرار خصائص الأفراد واستقرار متطلبات عالم الشغل، التبعية والسلبية في القرارات الخاصة بالفرد، فإننا نجدها لا تحقق الغاية من أي فعل تربوي في الوقت الراهن، إذ أن تجاوز تلقين المعرفة وحشو ذهن التلميذ بالمعلومات الذي ساد طوال فترة من الزمن، استبدل بحاجيات هذا الأخير واهتماماته في الفعل التربوي وأصبح ينظر إليه كوحدة تكونها عناصر وجوانب متداخلة ومتكاملة بما فيها الجانب الجسمي، العقلي، النفسي، الاجتماعي وكذا الدراسي والمهني.
في هذا السياق أصبح التلميذ عنصر نشطا وفعالا في الدراسات السيكولوجية في ميدان التوجيه بحيث يبحث عن المعلومات ويكتشفها ويرتبها حسب حاجاته ويطور اتجاهاته ويكتسب الخصائص الضرورية لبناء وتحقيق مشروعه الدراسي والمهني.
إن هذا التوجه الإيجابي نحو الفرد، فرضته التطورات النظرية المتعاقبة في ميدان التوجيه والتغيير في المهام المسندة للمختص على مستوى التطبيق، بحيث أصبح المشروع الدراسي والمهني هو الهدف البيداغوجي لعمله الميداني وذلك من خلال تدخلات تربوية ملائمة متمثلة في برامج تربية الاختيارات والتي تعتبر تطبيقا عمليا لتربية التوجيه.
من هذا المنظور أدركت الكثير من الدول خاصة دول أوربا ودول أمريكا الشمالية وحتى بعض دول أمريكا اللاتينية الحدوديات التي فرضها المفهوم التقليدي للتوجيه وتسارعت على تبني المفهوم الجديد له أي المنحى التربوي أو التطوري.

2-1- التصور التربوي للتوجيه:

يرجع ظهور المنحى التربوي في التوجيه إلى التطور الذي حدث في مجالات علم النفس كعلم النفس العمل والتنظيم، علم النفس المعرفي، علوم التربية … والتي فرضت تغيير المهام المسندة لمختصي التوجيه.
بالإضافة إلى هذا، فلقد أثرت الجهود المبذولة من طرف الباحثين في ميدان التوجيه على ظهور هذا المنحى وانتشاره في الكثير من الدول ككندا، سويسرا، فرنسا، بريطانيا،ومن خلال هذه المساهمات تغيرت الاتجاهات النظرية للتوجيه إلى المنحى التربوي  وبالتالي حددت المبادئ الأساسية له حسب بيمارتن Pemartin و ليقرس Legres (1988) وهي:
عدم الاستقرار في خصائص الفرد من اتجاهات وميول وقدرات … إلخ وبالأخص في مرحلة المراهقة التي تعتبر مرحلة تغير في جميع نواحي النمو.
عدم ثبات متطلبات مراكز العمل بسبب التطور الذي يعرفه عالم الشغل سواء من حيث التنظيم الهيكلة، التكنولوجيات المستعملة و التأهيلات المطلوبة.ص59
وبناء على هذين المبدأين القاعديين تمحورت الدراسات في ميدان التوجيه حسب هذا المنحى وحدد مفهومه كما أشارت إليه ترزولت عمرون حورية (1997) فيما يلي:
التوجيه عملية غير آنية وإنما سيرورة تمتد عبر الزمن.
 الفرد خلال هذه السيرورة طرف نشط و مسؤول عن اختياراته.
 تحديد أي اختيار يكون نتيجة لمشروع مدرسي أو مهني.
 بناء وتحقيق هذا المشروع يتطلب معارف واتجاهات ضرورية.ص09
وبعد فهم مبادئ المنحى التربوي للتوجيه نحاول معرفة مختلف النشاطات التي تندرج ضمنه.
- نشاطات التوجيه التربوي: يتفق معظم الباحثين حسب Watts و آخرون (1988) ، (1988) Dupont ، المجلس المهني لمستشاري التوجيه الكندي (in Bujold et Gingras 2000) على أن الخاصية الإجرائية للتوجيه المدرسي و المهني تترجم على أنها مجموعة من النشاطات تسمح للفرد بإتخاذ القرارات التي تحدد تطوره المدرسي و المهني. و تتمثل هذه النشاطات في :
- الإعلام (Information) : و يقصد به إعطاء للمعنيين معلومات فعلية و موضوعية حول العالم المدرسي، المهني و حول أنفسهم.
- التقييم (Evaluation) : إعطاء حكم تشخيصي حول المطابقة أو التوافق بين قدرات و إمكانيات الفرد و حول إختياراته.
- المشورة (Avis) : إعطاء إقتراحات للأفراد اعتمادا على التجارب و المعلومات التي أكتسبها المختص من خلال دراسته المهنية.
- الإرشاد (Conseil) : مساعدة الفرد على الكشف و التعبير عن أفكاره و إحساساته المتعلقة بوضعيته الحالية و الإمكانيات المتاحة له.
- تربية المشاريع (Education des Projets): وضع برامج تربوية تسمح للمشاركين بتطوير قدراتهم و الأدوات المعرفية اللازمة للاختيارات الدراسية والمهنية و تحديد الخطة المناسبة لتحقيقها.
- التعيين (Placement): مساعدة الفرد على الحصول على مركز العمل أو التكوين المناسب.
من خلال التطرق إلى مناحى التوجيه بما فيها المنحى التشخيصي و المنحى التربوي، يظهر جليا الاختلاف في الدور المسند لمختصي التوجيه حيث يهدف الأول اعتمادا على الاختبارات النفسية إلى تحقيق التكافؤ بين متطلبات مراكز العمل و خصائص الأفراد. بينما يهدف منحى التوجيه التربوي إلى تزويد الفرد بمعلومات حول الذات ، حول عالم الدراسة والتكوين و عالم الشغل و تهيئة الظروف الأساسية لبناء و تحقيق مشروعه الدراسي و/أو المهني.
يعتبر المفهوم السالف الذكر حسب Watts  وآخرون (1988)، Dupont (1988)، بوسنة وآخرون (1995) إجراء عملي ووظيفة بيداغوجية تتضمن مجموعة من الأنشطة التي تساعد الفرد على اكتساب الكثير من الكفاءات والمعارف والاتجاهات التي تسمح له بإعطاء معنى للعمل المدرسي وعمليات التكوين من خلال توضيح اهتماماته وتنمية روح المسؤولية لديه والقدرة على اتخاذ قرارات ملائمة والتي تعكس في مجملها مستوى من النضج المهني ومستوى من الدافعية نحو إعداد وإنجاز المشاريع الدراسية والمهنية المستقبلية.
وتتمثل أهم أنشطة التوجيه التربوي أو التطوري حسب الباحثين السابقين في الإعلام البيداغوجي، المشورة، الرأي، الإرشاد، التقييم وبرامج تربية الاختيارات التي أصبحت حسب بوسنة (1998) ضرورة اجتماعية تربوية لا يمكن الاستغناء عنها وذلك لأهمية مساعدة الشباب على اتخاذ القرارات المناسبة فيما يخص مشاريعهم المدرسية والمهنية مع العلم أن كل شاب مضطر في مرحلة ما من مساره الفردي أن يتبع اختيارات معينة يكون لديها تأثير كبير على حياته.

2-2- المشروع الدراسي والمهني للمتمدرس:

إن فكرة المشروع الشخصي للمتمدرس حسب أحمد فرح (1996) هي مفهوم حديث جاء ليعوض إفلاس التوجيه في صيغه التقليدية المتسلطة التي كانت تعتمد قياسات مرقمة أساسها حصيلة النتائج المدرسية وتوجهات المخططات الوطنية للبلد المعني حيث تضبط نسب توجيه إلى كل شعبة بعينها بحسب حاجة البلد إلى متخرجين من هذه الشعبة أو تلك، وغالبا ما يكون التلميذ ضحية هذا الصنف من التوجيه الاعتباطي. فكان أن لقي هذا الاعتباط و ما أنفك يلقي معارضة شديدة من لدن العائلات والتلاميذ والهيئات التربوية والمجتمعية بحجة أنه لا يمكن للتلميذ أن ينجح في مسار دراسي لم يكن له في اختياره ضلع بل فرض عليه أو أقنع به من قبل سلطة تربوية أو اجتماعية لم تكن لتناقش في السابق وحتى الآن في كثير من المجتمعات. ص02-03
و على العموم لقد أخذت كلمة مشروع مكانتها الأساسية في تاريخ التفكير حسب قيشار Guichard (1993) معHeiddegger  واعتبره النقطة المركزية لمحاولة فهم الفرد. فالمشروع هو مركز سلوكاته على حد تعبير سارتر Sartre حيث يرى أنه يمكن تعريف الفرد من خلال مشاريعه. ص13-14
أما في ميدان التوجيه، فإن مفهوم المشروع يندرج ضمن المفاهيم الأساسية التي تستند على مبادئ المنحى التربوي والتي تركز على أن عملية التوجيه سيرورة ممتدة عبر الزمن وأن أي اختيار مدرسي أو مهني لابد أن يكون نتيجة لمشروع مستقبلي.
ولفهم أكثر هذا المصطلح نرى من الضروري تحديد الاختلاف بين الاختيار والمشروع وأهمية هذا الأخير في تدعيم إجراءات التوجيه الجامعي في الجزائر.
- الفرق بين مفهومي الاختيار والمشروع: هناك العديد من التعاريف التي قدمها الباحثون لمفهوم الاختيار نذكر من بينها تعريف Sillamy (1980) للاختيار، حيث يرى أنه القرار الذي من خلاله نقبل إمكانية ضمن الإمكانيات المتوفرة سواء كان هذا الاختيار يتعلق بمهنة أو صديق أو  نشاط معين مع العلم أنه يتطلب مشاركة كل جوانب شخصية الفرد.ص189
لم يركزSillamy في تعريفه للاختيار على مجال معين ولكنه أعتبر الاختيار كقرار يتخذه الفرد لقبول فرصة من الفرص المتاحة له. وعملية اتخاذ القرار هذه لا تتـم بمعـزل عن تدخل كل جوانب وخصائص شخصية الفرد النفسية الاجتماعية و الجسمية ...إلخ. وفي نفس الإطار، يـرى Albau (1982) أن الاختيار المهنـي كالانخراط الحـر المبني بالرضا على معرفة الأسباب أي الأخذ بعين الاعتبار إمكانيات الفـرد، معطيات العمل، المضمون الاقتصادي والاجتماعي. ص43
من خلال هذا التعريف نجد أن Albau لم يكتـف في تعريف الاختيـار على أنـه القرار الذي يتخذه الفرد لقبول فرصة من الفرص كما فعل ذلك Sillamy ولكنه ربط عمليـة الاختيار بشرطين يتمثلان في ضرورة توفير الحرية للفرد أثناء صياغة اختياره و رضاه التام على اختياره نتيجة لمعرفة الأسباب والإمكانيات و معطيات عالم الشغل.
يتضح من خلال هذه التعاريف أن مفهوم الاختيار يستند كثيرا على التصور التشخيصي للتوجيه، إذ بناء على المعرفة الدقيقة لخصائص الفرد، وما يتوفر من معلومات حول المهن المختلفة يتم اختيار المجال الأكثر ملاءمة لخصائص الفرد؛ يتم القيام بهذا الاختيار عندما يكون الفرد في وضعية تفرض عليه ذلك، أي أن الاختيار بهذا الشكل هو مطلب مرحلي أو ظرفي (مرتبط بالوضعية الحاضرة).
إن تميز الاختيار بالآنية حسب هذه التعاريف، تجعل الفرد عرضة لسوء الاختيار والأخطاء عند القيام به، فالفرد وخاصة في مرحلة المراهقة التي تتميز بتغيرات على جميع نواحي النمو، نجده لم يحدد المجال الذي يميل إليه حقيقة، كما أنه لا يكون واع بقدراته وإمكانياته، هذه الوضعية تجعل من الاختيار الذي يصوغه المراهق قي ظل هذه المعطيات اختيارا غير موضوعي ولا يحقق من خلاله تلاؤمه وتكيفه مع المجال الدراسي أو المهني المختار.
وتبعا للجهود المبذولة لتطوير المنحى التربوي للتوجيه، تطور مفهوم المشروع باعتباره من المفاهيم الأساسية التي تندرج ضمن هذا المنحى.
في هذا الصدد تعددت تعاريف الباحثيـن لمفهوم المشروع نــذكر من بينها تعريف Guichard (1993) الذي يرى بأن المشروع هو الفعل الذي نريد تحقيقه في المستقبل، كما أنه تأسيس علاقة ذات دلالة بين الماضي  والحاضر والمستقبل مع تفضيل هذا البعد الأخير. ص16
ركز Guichard في تعريفه للمشروع على البعـد الزمنـي المستقبلي مـع الأخذ بعين الإعتبار الماضي والحاضر، فالفعل الذي نريد تحقيقه في المستقبل يكتسب منظـور زمني قد يبعد أو يقصر حسب طبيعة هذا الهدف المراد تحقيقه، وبالتالي تكون لكل لحظـة معنى محددا فـي الحاضر أو الماضي، وهـذا مـا يجعل الفـرد كمـا يـرى Guichard يسترجع تصوراته ويعيد قراءتها ويقيمها ويبحث عن الوسائل المناسبة التي تسـاعده على تحقيق هدفه. وبذلك فالبعد المستقبلي هو الموجه الأساسي لسلوكات الفرد والذي بموجبه يعطي معنى للماضي والحاضر.
نستخلص مما سبق أن صياغة أي اختيار لابد أن تدرس فيه جميع التفاصيل والوضعيات الماضية والحاضرة والمستقبلية، أي يجب أن يكون اختيارا مدروسا مبنيا على أساس مشروع درست وحددت الوسائل والإمكانيات المساعدة على تحقيقه وعلى التغلب على مختلف الصعوبات التي يمكن أن تعترض الفرد في سيرورة تحقيق هذا المشروع.
تتضح من كل هذه التعاريف الفروق بين مفهوم المشروع ومفهوم الاختيار على أنه:
ـ المشروع هو توافق بين الذات والمحيط، إذا يختار الفرد أهدافا يراها ضرورية ويكون واع بضرورة توفر بعض الشروط وتجاوز بعض المراحل لتحقيق هذا الهدف، على عكس الاختيار الذي يعتبر سلوك آني غير مدروس لا يعتمد على تحليل للوضعيات ومحدد غالبا بتأثيرات المحيط.
ـ مفهوم المشروع يتبع على أساس مخطط أفعال كما أنه سلوك نشط يفترض البناء والإعداد ويتطلب بذلك اكتساب بعض المعارف والاتجاهات لتحقيق هذه المهام بينما لا يتطلب الاختيار كل هذه الشروط ، فهو لا يسبق بأي تخطيط ولا يكتسب الفرد بالضرورة بعض المعارف التي تساعد على حسن الإختياربل يكون اختياره في كثير من الأحيان نتيجة للصدف.
في هذا الصدد تشير Aimée Fillioud (1970) في نتائج دراسة أجريت على 1159 شابا تتراوح أعمارهم ما بين 15 - 24 سنة أن شابا من ثلاثة شبان اختار مهنته صدفة … وترجع ذلك إلى أن المراهق لا يعلم الأسباب العميقة لاختياره، وترى الباحثة أن الصدفـة لا يمكن منطقيا أن تكون نتيجة جهود بذلها المراهق في صياغة الاختيار. ص270
وهذا يعني أن صياغة الفرد لاختيار آني غير مدروس تدل بالضرورة على أنه لم يبذل أي جهد ولم يقم بأي نشاط يكسبه معارف واتجاهات تساعد على تحقيق هدفه.
في هذا الإطار يمكن القول بأن بذل المجهود لتحقيق المشروع ينبني على أساس اعتبار المشروع كحاجة يحاول الفرد إشباعها، وخاصة إذا ارتبطت هذه الحاجة بتحقيق الذات، ففي هذه الحالة يكون الفرد مدفوعا بدوافع عالية لتحقيق هذه الحاجة وتجنب حالة التوتر التي تنجم عن عدم الإشباع بتعبئة كل الطاقات وبذل كل الجهود لمواجهة العراقيل والصعوبات وتحقيق هذا الهدف (إشباع الحاجة).
ـ يرى Forner (1986) أن مفهوم المشروع أوسع من مفهوم الاختيار، إذ يسمح بفهم وحدة وتنظيم السلوكات من بداية تحديد الهدف والمعبر عنه بالاختيار إلى تحقيق هذا الهدف فعكس الاختيار فإن المشروع يتضمن تحديد الهدف والوسائل والإمكانيات لتحقيقه.ص 179
ـ يتميز المشروع ببعض الخصائص منها: الاستقرار، الاستمرارية والتحقيق أو الإنجاز على عكس الاختيار الذي يتميز بتغيره، فالفرد يشعر بالتردد والتذبذب في اختياراته، كما أنه لا يستمر في اختيار ما، إذ قد يتخلى عنه لاكتشافه أن هذا الاختيار لم يكن موفقا، وحتى وإن استمر فيه فذلك لأنه مجبر على ذلك وتكون النتيجة عدم تكيفه وعدم بذله لأي مجهودات ليحقق الهدف المراد من هذا الاختيار.
- المشروع الدراسي والمهني كغاية بيداغوجية للفعل التربوي الحديث: تعتبر المبررات السابقة الدافع الأساسي الذي جعلنا نؤكد على ضرورة تطوير تطبيقات التوجيه في الجزائر لإدراجها ضمن قواعد التصور التربوي بهدف التكلف بالمتمدرسين من خلال مرافقتهم في بناء وإعداد مشاريعهم الدراسية والمهنية والتي تسمح لهم بصياغة اختيارات صائبة مع نهاية كل مرحلة دراسية حاسمة.
إن تعرف الفرد أو التلميذ على أسس إعداد مشروعه الدراسي والمهني أصبح مهمة بالغة الأهمية حتى يستطيع اتخاذ قرارات عقلانية يسعى من خلالها إلى تحقيق مسارات دراسية ناجحة والتقليل من سلوك المحاولة والخطأ في بناء قراره المستقبلي.
بعبارة أخرى، فإن الفرد في هذا البرنامج ليس بوكيل سلبي وإنما مشارك فعال في تحديد مسار مستقبله حيث أن الغاية الأساسية من نشاطات التوجيه هو تمكين الفرد أو التلميذ من الوصول تدريجيا إلى بناء المشاريع الخاصة به من خلال بناء تصورات حول المحيط المدرسي والمهني وتوسيع المعارف والإدراكات المكتسبة حول هذا المحيط من جهة، وبالمقابل يعمل الفرد على بناء التصورات حول الذات وتعزيز ثقته بنفسه والتقليل من مخاوف عالم الغد المدرسي والمهني.
إن التركيز على التصوريين السابقين في بناء المشروع يسمح للفرد بتحقيق أمرين هامين حسب تعبير Huteau (1982) وهما:
- التوازن بين النزعة إلى الحرية الفردية والاستجابة إلى تأثيرات التنشئة الاجتماعية.
- التوفيق بين الرغبات والقدرات ومتطلبات أو إرغامات الواقع.
مع العلم أن تصورات الفرد لنفسه وتصوراته نحو العالم المدرسي والمهني هي من أهم الخصائص التي حاول الباحثون اعتمادها في أنشطة التوجيه التربوي وهذا لأهميتها في التشكيل المشروع الدراسي والمهني.
وتشير الكثير من الدراسات إلى الحاجة الملحة للتوجيه، حيث قام Carney وزملائه (عن شخشير صبري 1985 ) بتقويم خدمــات التوجيه والإرشاد بجامعة أوهايو لتحديد الخدمات المطلوبـــة لتطويره ,حيث شاركت عينة عددها801 طالباً وأجابوا بأنهم يفضلون بالدرجة الأولى خدمات في مجال فرص تطوير مهنتهم المستقبلية career opportunity service .
كما عمل Maconatha وMayes  (نفس المرجع السابق) بفحص برامج التوجيه والإرشاد وتقويمها في إحدى الجامعات الأمريكية، وباستخدام إستبانة تضم إحدى عشرة مجموعة من المشكلات، تبين أن الطلبة أعطوا أهمية كبرى لمشكلة التكيف مع الكلية والمستقبل المهني. 
وفي دراسة حول أهمية التوجيه التربوي والمهني لأبناء المرحلة الثانوية بالكويت (عن عيد الدرزي 2000) هدفت إلى معرفة حاجة طلاب المرحلة الثانوية للتوجيه المدرسي والمهني، وتوصلت أن المدارس باتـت في حاجـة ماسة إلى خدمــة التوجيه ويمكن حصر مظاهر هذه الحاجـة في:
- احتياج الطالب الثانوي للتعرف على استعداده وميوله.
- حاجة الطالب الثانوي للتعرف على مجالات المجتمع وطبيعة كل مجال .
وفي نفس الاتجاه عمل مالك مخول على قياس اتجاهات المدارس الثانوية نحو العمل في القطر العربي السوري النابعة من الحاجات الاجتماعية للقطر، والتي تؤكد أن الاتجاه نحو العمل مرتبط بالميول المهنية للطلاب وبخطتهم الحياتية وبالخواص النفسية المنفردة للشخصية وقد طبقت استمارة لقياس هذا الهدف على 1479 طالب وطالبة في الصف الثالث ثانوي, وتوصل الباحث إلى أن إعداد الطلاب للعمل الاجتماعي النافع ومعرفة اختيار المهنة يعتبران في وقتنا الحاضر من بين المسائل الرئيسية التي تواجه المدارس السورية. (عيد الدرزي المرجع السابق)
ويؤكد سعد جلال (عن الكواري و محمد الصديق 1998) على أن من بين أهم المشكلات التي يواجهها الطلاب في تعاملهم مع النظام التعليمي هي مشكلة اختيار التوجيه المناسب والتي تتزامن مع ثلاث فترات حرجة من حياة الفرد يهتم بها وتهتم بها الأسرة والمجتمع الأولى عند الانتهاء من المرحلة الابتدائية والثانية عند الانتهاء من المرحلة الإعدادية والثالثة عند الانتهاء من المرحلة الثانوية ودخول الجامعة.
ولعل أهمية التوجيه الدراسي تشتد حسب شاكور (1997) كلما ارتقى التلميذ في دراسته وبصورة خاصة عندما يصل إلى المرحلة المتوسطة أو الإعدادية التي بانتهائها يقف المتعلم أمام مجموعة كبيرة من الاختيارات وعليه أن يختار وعلى هذا الاختيار سيتقرر المصير ويتحدد المستقبل فان وفق في ذلك يجني النجاح والسعادة وان لم يوفق يعاني طيلة حياته من سوء اختياره.
في هذا السياق تعتبر المرحلة المتوسطة أو الإعدادية في كثير من الدول محطة مرور إلى مختلف المسارات الدراسية، التكوينية والمهنية. ففي منظومة التربية الجزائرية يسجل أول قرار دراسي في حياة التلميذ مع نهاية مرحلة التعليم الأساسي التي تقابل المرحلة المتوسطة حاليا، بحيث يجد هذا التلميذ نفسه أمام مواجهة مشكلة اختيار الشعبة الملائمة مع خصائصه قدراته واتجاهاته.
ومن هنا يمكن القول أن عملية اختيار التوجيه أمر صعب وفي غاية الخطورة لأنها تضع الفرد أمام مطالب ومستلزمات بما في ذلك من مزايا ومخاطر وصعوبات و يمكن أن تكون عونا له أو عائقا في وجهه.
تخلق هذه الوضعية عند التلميذ وخاصة المراهق كما أشار إليه معاليقي (عن شاكور1997) حالة من التململ وعدم الاستقرار وتزيد من عنف التوترات التي تميز هذه المرحلة وذلك أن ذاتية المراهق تتوزع في عدة اتجاهات في مجال اختيار الدراسة أو المهنة إمكانياته العقلية وتماهياته بالآخرين ودوافعه الواعية وغير الواعية ويظهر قلق المراهق وتوتره في التذبذب وعدم الثبات والتنقل من تماه الى تماه آخر. 
تزداد هذه الوضعية سوءا عند غياب فكرة المشروع الدراسي والمهني لدى التلميذ أثناء فترة المراهقة وهذا ما يعكس كما أشار إليه Pemartin و Legres (1988) بعض السلوكات السلبية عنده مثل شدة القلق والاضطراب والشعور بالنقص لان هذا المشروع يصبح من المتطلبات الاجتماعية والتي تزداد أهمية مع ضغط الأهل، الأقارب، إدارة المؤسسة وظروف المحيط بصفة عامة.
وبالمقابل يشير Forner  (1986) أن اختيار التلميذ أو الطالب لأحد الفروع الدراسية أو الجامعية وحتى التكوينية وفق مشاريعه الدراسية والمهنية من العوامل الأساسية التي تؤدي إلى تحقيق مسار دراسي أو مهني ناجح بحيث يصبح في هذه الحالة اختياره لأحد التخصصات ليس حدثا آنيا فرضته وضعية الاختيار مما يجعله عرضة للعديد من العوامل المحيطة كتأثير الوالدين، الأقارب، الزملاء، قيم المجتمع وانتماءه الجغرافي أو عوامل شخصية  كجنس الطالب وسنه وبعض محددات شخصيته عموما، بل تم اختيار مجال الدراسة على أساس مشروع دراسي ومهني مستقبلي بحيث يعبر عن هدف يشعر التلميذ بالحاجة إلى تحقيقه في المستقبل ومن ثمة فان هذا الأخير يتمسك بهذا الاختيار ويوجه سلوكاته الوجهة التي يستطيع من خلالها مواجهة جميع الصعوبات والعراقيل التي قد تعيقه على تحقيق هذا الهدف في المستقبل والمتمثل في الالتحاق بمهنة التخصص وتحقيق مختلف الدوافع والنجاحات المنتظرة من ذلك " Les Attentes ".

الخاتمة:

يدور محور هذه المداخلة حول قناعة الباحثين وحتى السياسيين في الانخراط في اتجاه التصور التربوي للتوجيه نتيجة للنقائص التي عرفتها الممارسات التقليدية في هذا الميدان والتي سادت قرابة قرن من الزمن، بحيث حاول المشتغلين والمهتمين في محاولـة التحكم في إدخالات النسق التربوي وإخراجاته، أي إعـلام جمـاهير المتمدرسين بمجالات الدراسة والتكوين وتوزيعهم على المناصب البيداغوجية حسب الفروع والتخصصات محاولين في ذلك تحقيق المطابقة بين الصفيحة النفسيـة للفرد ومتطلبـات الدراسـة والتكوين بصفـة عامة.
ويقوم التصور الحديث أو التربوي للتوجيه على فكرة المشروع كغاية بيداغوجية لكل تدخل تربوي الذي يتطلب متابعة المسار الدراسي للتلميذ من خلال مواقف وأنشطة يعتمد فيها المختص على محتوى الإعلام البيداغوجي الذي يتضمن تنوع وحداثة المعلومات والاتصال المستمر بالتلميذ موضوع الاهتمام حتى تنمو معارفه وتتطور اتجاهاته بطريقة يصبح فيها قادراً على التوجيه الذاتي.
ولعل البحث الحالي يسجل ضمن انشغالات الباحثين والمهتمين بعملية التوجيه وإجراءاته في الكثير من الدول ومن بينها الجزائر التي تصبوا إلى التكفل البيداغوجي بالمتمدرسين وهذا سواء في مؤسسات التربية أو التكوين الجامعي من خلال تطوير آليات سيكوبيداغوجية تعمل على تهيئة الظروف والعوامل التي من خلالها يستطيع الفرد صياغة اختيار في إطار مشروع دراسي ومهني مستقبلي وهذا تماشيا مع الدراسات العالمية التي تعطي أولوية للأفراد في التكفل بمستقبلهم في إطار تنمية شاملة ومتكاملة.

المراجع العربية:

- أحمد فرح (1996): دور التوجيه المدرسي والمهني في مساعدة التلاميذ على بناء مشروعهم الفردي-ورشة عمل حول التوجيه المدرسي والمهني- المنظمة العربية للتربية والتفافة والعلوم. الجزائر.
- الكواري.ص- س ومحمد صديق. م (1998): التوجيه المهني وإعداد الأفراد للعمل. مجلة التربية. العدد الرابع والعشرون بعد المائة. مارس. ص 42-59. مطبعة وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي. قطر.
- بوفلجة غياث (1992): التربية والتكوين في الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر.
- ترزولت حورية، بوسنة محمود (1996): قياس النضج المهني للمتربصين في مراكز التكوين المهني، النسق التربوي في الجزائر، حوليات جامعة الجزائر عدد خاص.
- ترزولت عمروني حورية (1997): مشاريع التكوين المهني المتبعة من طرف المتربصين ، رسالة ماجستير غير منشورة :جامعة الجزائر.
- ترزولت عمروني حورية (2008):أثر برنامج تربية الاختيارات على الخاصيات السيكولوجية الدالة على بناء وتحقيق المشاريع الدراسية والمهنية (دراسـة تجريبيـة على تلاميذ الطور الثالث من التعليم الأساسي بمـدينـة ورقلـة).رسالة دكتوراه غير منشورة جامعة الجزائر.
- حمر الرأس. ع-ا (1998): المدرسة الأساسية ونظام التوجيه .الملتقى الوطني حول إشكالية التوجيه الجامعي. المركز الجامعي بورڤلة.
- شاكور.ج- و (1997): تأثير الأهل في مستقبل أبنائهم على صعيد التوجيه الدراسي والمهني. مؤسسة المعارف للطباعة والنشر. ط1. بيروت. لبنان.
- شخشير صبري.خ ( 1985 ): الحاجة إلى تحسين الإرشاد الأكاديمي في الجامعة كما يراه الطالب الجامعي العربي. المجلة العربية لبحوث التعليم العالي. العدد الرابع ص 37-56. يناير / كانون الثاني.
- عبد الكريم قريشي (1993): التوجيه المدرسي في الجزائر، مجلة الفكر ، الجمعية الثقافية الجامعية الأمل: الجزائر.
- عيد الدرزي.أ- م (1999/2000): دور الأسرة التربوي في بناء الاتجاهات نحو اختيار مهنة المستقبل لدى الأبناء . دراسة ميدانية في محافظة ريف دمشق. دراسة مقدمة إلى كلية التربية بجامعة دمشق لنيل درجة الماجيستر في التربية.
- محمد أحمد سعودي (1992): تحقيق حول التوجيه وزارة التربية الوطنية، الجزائر.
- مقدم عبد الحفيظ (1994): دور التوجيه والإرشاد في الاختيار والتوافق المدرسي والمهني – المجلة الجزائرية للتربية ، العدد الأول وزارة التربية الوطنية الجزائر.
* الوثائق التي تنظم عمليات التوجيه.
وزارة التربية الوطنية: النشرة الرسمية للتربية الوطنية التوجيه المدرسي والمهني خلال الفترة الممتدة من 1962 إلى 2001 المديرية الفرعية للتوثيق. مكتب النشر. عدد خاص جوان 2001.
وزارة التربية الوطنية، مديرية التقويم والتوجيه والاتصال ، المديرية الفرعية للتوجيه والاتصال: دليل منهجي في الإعلام المدرسي لفائدة مستشاري التوجيه المدرسي و المهني.
وزارة التربية الوطنية، مديرية التقويم والتوجيه والاتصال (1998): تجريب مشروع تربية اختيارات التوجيه رقم 109/620.

المراجع الأجنبية:


-Albau P.(1982) : Les Problèmes Humains de L’entreprise. 3ème Edition , Bordas , Paris .
-Boussena M., Cherifati  D., Zahi C. (1995) : L’information et L’orientation Professionnelle en Algérie, Réalité et Enjeux .Publication Cerpeq, O P U .
-Bujold Ch, Gingras M.(2000) : Choix professionnel et le développement de carrière: théorie et recherche. Gaëtan Morin 2éme édition Montréal- Paris
-Dupont  P. (1988) : Vers un nouveau Modèle D’éducation à La Carrière Pour Les Ecoles Du Québec. OSP, 17, N°= 4, 309. 322.
-Fillioud A. (1970) : le choix du métier à l’adolescence, CPDL Paris.
-Forner Y.( 1986) : Les Déterminants non Cognitifs des Projets Scolaires et Professionnels des Lycéens en Terminale, Doctorat 3eme. Cycle, Paris.
-Guichard J .(1993) : L’Ecole et les Représentations D’Avenir des Adolescents, P.U.F.
-Huteau M. (1982) : Les Mécanismes Psychologiques de l’évolution des attitudes et des préférences vis-à-vis des activités Professionnelles. in OSP,11,2,107-125.
-Larcebeau S. (1978) : Le Choix Professionnel. Théories et Méthodes d’études .OSP, 8, N°= 3, 203 - 214.
-Pemartin D.et Legres J.(1988) : Les Projets chez Les Jeunes, Edition Moulineaux: France.
-Sillamy N. (1980) : Encyclopédie de Psychologie .Tome I et II , Bordas , Paris.
-Watts AG, Dartois C, Plant P. (1988) : Les Services D’orientation Dans La Communauté Européenne : Différences et Tendances Communes O S P, 17, N°= 3, 183. 192.

ليست هناك تعليقات